تحت رعاية مركز الاشعاع الفكري للدراسات والبحوث

تنويه: جميع المقالات المنشورة على الموقع تعبر عن وجهات نظر كتابها ، دون أدنى مسئولية على إدارة المجلة

الوسم المشترك: الاجتماع

‌تأمل ‌‍‌في ممارسات‌‍‌ علم الاجتماع‌‍‌ النقدي‌‍‌ المعاصر‌ 

19 أغسطس، 2022 التعليقات على ‌تأمل ‌‍‌في ممارسات‌‍‌ علم الاجتماع‌‍‌ النقدي‌‍‌ المعاصر‌  مغلقة

(رؤية تحليلية‌ – نقدية)  ‌د. حسام الدين فياض‌   ‌الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة‌     ‌ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً‌  يطرح علينا عنوان هذا المقال مناقشة التساؤل التالي:‌ ‌كيف نمارس حرفة علم الاجتماع‌  ‌بعد مضي أكثر من قرن يفصلنا عن المحاولات الأولية لتحديد المسار العلمي‌  ‌والاجتماعي لعلم الاجتماع‌‍‌؟ فلا يزال لغاية اليوم تطرح قضية التزام عالِم الاجتماع المثيرة للجدل تساؤلات عديدة حول‌  ‌ممارسته لعلم الاجتماع وغاياتها. فعلى سبيل المثال يقف معظم علماء الاجتماع على تخوم السياسيين، وعلى مقربة‌  ‌أشدّ مما يظنون من أصحاب القرار. أليس ذلك ينذر بوقوع عالِم الاجتماع ذاته في الشَّرَكِ فيجبر على اتخاذ موقف‌  ‌ما؟ ، وبالتالي تسييس نتائج وتوصيات بحثه حول دراسة الواقع الاجتماعي.‌  ‌وفي المقابل نجد أنه ما من عالِم اجتماع إلا وتساءل ولو لمرة واحدة حول نفع أعماله، وهَمَّ في لحظة ما، ربما،‌  ‌بالتدخل شخصياً في مناقشات عصره الاجتماعية واتخاذ موقف ما. وهذا يعني أنه ليس بمستطاع عالِم الاجتماع في‌  ‌هذا المعنى أن يبقى مختبئً في برجه العاجي والإمساك عن مناقشة المسائل الاجتماعية والسياسية خاصةً إذا ما‌  ‌كانت تتعلق مباشرةً بالأعمال التي أنجزها‌(​1).    ‌إن المدقق لواقع علم الاجتماع المعاصر، يجد أن معظم علماء الاجتماع يدفنون أنفسهم في شقوق المعرفة‌  ‌الضيقة، إلا أن‌ ‌علم الاجتماع النقدي‌‍​2∗ Critical Sociology  (​3) ‌يحاول وبكل جرأة وشجاعة أن يتحمل الإجابة‌  ‌عن الأسئلة الكبيرة المسكوت عنها من قبل علماء اجتماع السلطة الذين يحاولون مراراً وتكراراً أن يطفئوا الشعلة النقدية‌  ‌لعلم الاجتماع المدافع عن حقوق ومصالح السواد الأعظم من أفراد المجتمع‌ .  ‌والدليل على ذلك أن علم الاجتماع النقدي يقدم الندوات المتعمقة والمقالات الصعبة حول القضايا‌ ‌المعاصرة‌  ‌و‌‍‌الراهنة بهدف تقديم إجابة عقلانية عما يدور في الواقع السياسي والاقتصادي وآثارهما على الحياة الاجتماعية. كما‌  ‌أنه يقدم البدائل الممكنة للنظام الاجتماعي القائم الذي لا يهتم إلا بإرضاء مصالحه الخاصة، حتى لو كانت على‌  1() سيرج بوغام:‌ ممارسة علم الاجتماع‌‍‌، ترجمة: منير ‌‍‌السعيداني‌‍‌، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط‌1‌، ‌2012‌، ص (‌186).   2∗ ثمة مسميات كثيرة ظهرت في السنوات العشر الأخيرة ‌للاتجاهات المعاصرة في علم الاجتماع‌‍‌، منها: ‌‍‌(الاتجاه الراديكالي، والاتجاه الماركسي الجديد،‌  ‌والهيجلي‌ الجديد، واليسار الجديد)‌. وبينها جميعاً تباينات في المنطلق النظري، أو رفض التنظير القائم، على أن الملمح المشترك بينها جميعاً هو بروز‌  ‌عنصر النقد كعنصر أساسي في محاولة تجديد علم الاجتماع وتحريره. ويتراوح هذا النقد ما بين نقد فكرة أو مفهوم أو قضية نظرية، أو خاصية نوعية في‌  ‌ظاهرة أو عملية اجتماعية، وبين رفض كل التنظير القائم، والبحث عن آخر جديد، ويتراوح أيضاً بين رفض ظاهرة أو مجموعة من الوقائع، وبين رفض‌  ‌النظام القائم برمته، ويدلل على هذا أن بعض الباحثين في علم الاجتماع يعتبرون أنفسهم راديكاليين مثلاً لمجرد أنهم يخالفون الاتجاه العام السائد في‌  ‌الفكر السوسيولوجي أو في منهج البحث. والبعض الآخر يعتبر أن التعبير عن المعارضة (أخلاقياً) للسياسات الاقتصادية كافٍ لتصنيفهم راديكاليون.‌  ‌وهناك آخرون يرون أن أي موقف نقدي من النظم الاجتماعية يعتبر موقف راديكالياً حتى ولو كان هذا النقد لا يؤدي إلى أكثر من الدعوة لمجرد إحداث‌  ‌بعض الاصلاحات التكنوقراطية. ولهذا يرى من اهتم بهذا الاتجاه من الكتّاب العرب أن يقتصر تعريف الراديكالية على الموقف النقدي من المسلمات‌  ‌والأسس التي تنهض عليها النظريات السوسيولوجية التقليدية وما يرتبط بها من مناهج، وأيضاً من الأسس التي تنهض عليها النظم الاجتماعية، مع تقديم‌  ‌مسلمات بديلة وتصورات لنظم بديلة، على أن يتم هذا على أساس التحليل العلمي والشواهد التاريخية والأدلة الامبيريقية. وهذا التعريف يتفق تقريباً مع‌  ‌المعنى الأكثر استخداماً للراديكالية. ففي دائرة معارف العلوم الاجتماعية تحدد الراديكالية بوصفها مركباً متفاعلاً لمكونات ثلاثة يتمثل‌ ‌الأول‌‍‌ وهو الأكثر‌  ‌أهمية في وجود موقف أو إطار فكري نحو نظام محدد في مجتمع من المجتمعات أو نحو النظام العام‌ social‌ للمجتمع في كليته وشموله. ويتركز‌  ‌الثاني‌ في وجود فلسفة محددة وبرنامج عمل للتغيير الاجتماعي يضع في حسبانه التبديل لكل ما هو قائم واستبدال غيره به. وأما المكون ‌الثالث‌‍‌ فيؤكد‌  ‌ضرورة تحديد الأهداف والمفهومات من خلال تصورات ديموقراطية وإنسانية تعلي العام والخاص والمجموع على الفرد.‌  3() لمزيد من القراءة والاطلاع حول ‌مفهوم علم الاجتماع النقدي‌ انظر: الفصل الثاني عشر، من كتاب/ الدكتور سمير نعيم أحمد: ‌النظرية في علم‌  ‌الاجتماع (دراسة نقدية)‌‍‌، دار المعارف، القاهرة، ط‌5‌، ‌1985‌، ص(‌265).   ​1  ‌حساب مصالح الآخرين‌(​4).  ‌تدور الأزمة الحالية في مهنة علم الاجتماع، حسب‌ ‌جورج ‌‍‌غورفيتش‌‍​5∗ (1894- 1965‌) حول العديد من‌  ‌الصعوبات أو العوائق التي ليست كلها معرفية، ولكنها سياسية ومؤسسية بشكل أساسي. يتعلق منها بالأزمة العميقة‌  ‌للمنظورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات المعاصرة ذات الرؤية المحافظة المتحالفة مع كل أشكال‌  ‌السلطة، أي أنهم‌ ‌إصلاحيون بلا إصلاحات‌.‌ وبالتالي فإن حالة الانسداد الإيديولوجي، والتوافق الواقعي، والفكر المنفرد‌  ‌هي التي تشكل السياق الاجتماعي لجميع النصوص الاجتماعية‌.  ‌يواجه جميع علماء الاجتماع اليوم، بغض النظر عن النماذج النظرية ومواقفهم السياسية، هذا الوضع. البعض‌  ‌يعتاد عليها بسهولة، والبعض الآخر يستنكرها، لكن الكل يضطر إلى الاندماج في تحليلاتهم في إطار هذه السلعة‌  (الأحادية البعد) (​6).  ‌ويفسّر‌ ‌هربرت ماركيوز ‌(1898-1979) هذا الوضع من خلال ‌ممارسات المجتمع الصناعي‌‍‌ المتقدم، الذي‌  ‌استطاع وبكل براعة أن يفرّغ المجتمع من كل أشكال النقد، بهدف السيطرة عليه وتطوعيه في خدمة تحقيق أهدافه‌  ‌وغاياته المتمثلة بالسيطرة والتسلط على الإنسان والطبيعة. فوسائل الاتصال الجماهيري المحصنة بالتكنولوجيا التي‌  ‌يمتلكها هذا المجتمع على سبيل المثال، لا تجد أي عناء يذكر في تحويل المصالح الخاصة إلى مصالح تهم كل أفراد‌  ‌المجتمع من ذوي الحس السليم، حيث يبدو كل شيء عقلاني ولا يشوبه أي تناقض أو خلل. بذلك قدم المجتمع‌  ‌الصناعي المتقدم لأفراده مبررات منطقية للقضاء على أشكال النقد، من خلال التقدم التقني الذي يرسخ دعائم كاملة‌  ‌من السيطرة والتنسيق‌ (​7).  ‌بذلك تُشكل هذه “‌‍‌المعتقدات الإجبارية‌‍‌” الإطار الفريد والشامل إن لم يكن تجربة استبدادية. إنها بالفعل تجربة‌  ‌لنظام عالمي أناني وفريد من المفترض أن يكون غير قابل للتغيير ليفرض في نهاية المطاف معاييره وقيمه وأطره‌  ‌الواضحة‌.  ‌في هذا السياق، نرى أن تجربة ماركس واضحة من خلال الإيديولوجية الألمانية، التي كانت تعتبر الأيقونة‌  ‌الروحية للواقع الألماني، حيث يمكن للمرء أن يفكر بشكل أعم أن كل التكوين النظري يقوم على التكوين الاجتماعي‌  ‌وأن تطورات علم الاجتماع لا يمكن فهمها إلا من خلال فهم تطورات وأحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته العالمية.‌  ‌هذا الافتراض، الذي يبدو منطقياً، يعني أن هناك عواقب معرفية مترتبة ذات سمة حاسمة‌.  ‌إن الصعوبة الرئيسية التي تواجه كل المنطق الاجتماعي الحاسم اليوم – سواء كان عالمياً أو محلياً – هي في‌  ‌واقع الأمر غياب هذا المنظور، أو المشروع، أو الأفق أو الإسقاط. ومع ذلك، كما أظهر‌ ‌جان بول سارتر‌ (1905- 1980‌)، أن الإنسان هو أول كائن يخطط نفسه للمستقبل وأنه صاحب تفكير وحرية إرادة واختيار ولا يحتاج إلى‌  ‌موجه‌(​8)‌. مما يعد الشرط الأول لاحتمال وجود علم اجتماع نقدي، وهو بالتالي وجود حركات اجتماعية راديكالية،‌  ‌وبدائل سياسية ذات مصداقية، وتدخلات احتجاجية فعالة على الأرض، كما رأينا في احتجاجات‌ ‌اليسار الجديد‌  4() ‌حسام الدين فياض: ‌‍‌مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر ( النقد أعلى درجات المعرفة )‌‍‌، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط‌1‌، ‌2022‌، ص(‌126- 127).   …


الوسوم:, , ,