التنميــة الإنسانيــة ومجتمع المعرفــة

15 أبريل، 2018 التعليقات على التنميــة الإنسانيــة ومجتمع المعرفــة مغلقة الرافد المعرفي

(الكاتب/ د. زاهر ناصر  زكار*)

 

تلعب المعرفة   دورا أساسيا في تحقيق التنمية الإنسانية في جميع مجالاتها،فالتنمية الإنسانية في جوهرها هي نزوع دائم لترقية الحالة الإنسانية للناس جماعات وأفراد من أوضاع غير مقبولة في سياق حضاري معين إلى حالات أرقى من الوجود البشري وتؤدي إلى ارتقاء منظومة اكتساب المعرفة،وفي العصر الراهن من تطور البشرية تغدو المعرفة السبيل الوحيد لبلوغ الغايات الإنسانية الأخلاقية المتمثلة في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

مفهوم المعرفــة:

تمثل المعرفة البيانات والمعلومات والأفكار ومجمل البنى الرمزية التي يحملها الفرد أو يمتلكها المجتمع الإنساني في سياق دلالي وتاريخي محدد،والمعرفة هي التي توجه السلوك البشري فرديا وجماعيا في جميع مجالات النشاط الإنساني من حيث إنتاج السلع والخدمات،وفي نشاط المجتمع المدني والسياسة وفي الحياة الخاصة.وتتضمن المعرفة(مثلا)البنى الرمزية التي تمتلك من خلال التعليم والدروس المستفادة من خبرات العمل والحياة والتي تشمل الحقائق والصور وموجهات السلوك البشري،موثقة او ضمنية،كما تشمل المعرفة المؤسسية لمجتمع معين على التاريخ والثقافة والتوجهات الاستراتيجية والأشكال التنظيمية.

ومهما يكن،فإن المعرفة قد تكون صريحة(مسجلة بصورة معينة)أو ضمنية(في موجهات السلوك البشري التلقائية)،وانتاج المعرفة لا يقتصر على الأشكال التقليدية للعلم والبحث العلمي،بل تنتج المعرفة عن صنوف التعبير الأدبي والفني والنشاط الإنتاجي في الثقافتين العامة والشعبية..والمعرفة حالة إنسانية أرقى من مجرد الحصول على البيانات والمعلومات وقد تكون المعرفة اقل درجة في سلم السمو الإنساني،من الحكمة التي تشترط التزاما بالقيم الأخلاقية العليا للإنسانية كالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

مفهوم مجتمع المعرفة:

انتشر تعبير”المعرفة” خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي انتشارا واسعا مع مشتقاته،كاقتصاد المعرفة وانتاج المعرفة ومجتمع المعرفة،وحقوق الملكية الفكرية وغيرها،وقد ارتبط هذا الانتشار بصفة خاصة مع انفجار ثورة تكنولوجيا المعلومات مما أعطى انطباعا فيه الكثير من اللبس،وكأن المعرفة اكتشاف حديث،ولكن المعرفة في واقع الأمر،قديمة ومرتبطة بالحضارة الإنسانية.

ومجتمع المعرفة هو ذلك المجتمع الذي يقوم على نشر المعرفة وانتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي مثل، الاقتصاد والمجتمع المدني والسياسة والحياة الخاصة،وصولا للارتقاء بالحالة الإنسانية باطراد أي بمعنى تحقيق التنمية الإنسانية ويرتكز مجتمع المعرفة على عدة  مقومات أهمها:

1- إطلاق حرية الرأي والتعبير والتنظيم

2- نشر التعليم النوعي

3- التحول نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية

4- تأسيس نموذج معرفي عربي شامل يتسم بالأصالة والانفتاح والاستنارة.

المعرفة وعلاقتها الجدلية بالتنمية الإنسانية:

أصبحت المعرفة عنصرا جوهريا من عناصر الإنتاج وخاصة في مجال النشاطات الإنتاجية عالية القيمة المضافة التي تقوم وبدرجة متزايدة على كثافة المعرفة والتقادم المتسارع للمعارف والقدرات ،وهي معقل القدرة التنافسية على الصعيد العالمي وبالتالي مدخلا رئيسيا للتنمية الإنسانية.

وعلى مستوى العالم العربي فإن التنمية بارتباطها بالمعرفة تواجه مشكلة مزدوجة فمن ناحية الإطار المعرفي القائم على الثقافة التي تتغلب الغيبيات فيها على الواقع الاجتماعي،ـيقف عائقا في وجه البدء في مشروع تنموي يضع الواقع الاجتماعي (المادي) كمعيار،ومن ناحية أخرى، فإن واقع منظومة اكتساب المعرفة المحدث هو واقع متخلف وغير فعال،والمطلوب هو ضرورة استخدام الأسلوب العلمي والبحث عن الحقيقة في وضع الخطط وتحديد نوع المعرفة المطلوبة،من اجل تحقيق التنمية الإنسانية القائمة على مؤشرات مادية(ملموسة)ومعيشية مرتبطة بالاقتصاد والنظام الإنتاجي وبطبيعة القيم والمؤسسات القائمة على الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية كل ذلك مرتبطا بمنظمة معرفية قائمة على المعرفة العلمية.

والواقع أن قدرة أي مجتمع إنساني على اكتساب المعرفة ومدى توظيفها في خدمة التنمية هو رهن بالبنى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية،كما هو رهن بقيام الكثير من المؤسسات المجتمعية وبفاعليتها.

والتنمية في الجوهر مرتبطة بنظريات المعرفة،فالمعرفة هي ما يعرفه الناس وكيف نعرف ما نعرفه؟ وهذا السؤال قديم ومحير يعود إلى ما قبل سقراط ،وهو الذي تحدث عن إمكانية التفكير النقدي، والتساؤل حول طبيعة وكنة الفكر نفسه في العالم العربي.. يبدأ من التساؤل حول كنة الفكر وحول آليات إنتاج وانتقال المعرفة.

ومنذ فترة طويلة من تاريخ البشرية،كان هناك قناعة راسخة،أن الناس يعرفون عالما،وقد بدا أن المعرفة تتمركز في العقل وأن الواقع يوجد هناك في الخارج(أي العالم)الموضوعي وكانت المهمة الأولى للعلم هو في كيفية استيعاب العالم الخارجي في العقل بدقة وهذا التوجه وصل الى ذروته وتمثل في مناهج البحث العلمي الموضوعي.وهذه المناهج هي التي تضمن افضل وسيلة للحصول على المعلومات حول العالم.

ومع ظهور فلاسفة القرن الثامن العشر وخاصة الفيلسوف”كانـط” اصبح هناك ادراكا متزايد أنه ليس هناك ارتباطا مباشرا بين العالم (المحيط)الموضوعي القائم بحد ذاته والتجربة(أي الخبرة الإنسانية) وان كل ما لدينا نحن البشر هو مجموعة من التفسيرات لانطباعاتنا وخبراتنا التي تؤدي بنا للاعتقاد بأن عالما موجودا هناك  خارج نطاق الإدراك،واذا كانت العلاقة بين الواقع الموضوعي والإدراك هي افتراضية،فما الذي  يضمن الحقيقة أو ما يطلق عليه سلطة المعرفة؟، وان سلطة المعرفة تنشق من مجموعة المعرفة حيث يتفق الناس على ما هية الحقيقة وحسب تعريف “توماس لوهين”فإن المعرفة بطبيعتها ملكية للجماعة أو هي لا شيء…حيث ان المعرفة ليست ما يعتقده الأفراد،بل ما تعتقده الجماعات(أي جماعات المعرفة)وهذا لا يعني أنه ليس للأفراد أفكار،ولكن أفكار الناس لها معنى أو قيمة فقط ضمن سياق اجتماعي،ومن هنا يصبح الاهتمام بنظريات المعرفة(كيف نعرف ما نعرفه)أكثر أهمية من مادة المعرفة نفسها.

 وتأسيسا على ذلك،فإن المعرفة هي ملكية للجماعة والجماعات،للثقافة السائدة والثقافات الفرعية بما في ذلك الكليات الأكاديمية ومراكز الدراسات والبحوث التي تنتج وتحافظ على الحوار والنقاش الاجتماعي وهذا يثير تساؤلات جوهرية.

(* كاتب/ باحث متخصص في الدراسات الأكاديمية ,والتنمية البشرية)


الوسوم:, ,

" دكتور زاهر زكار "

عدد المواضيع: 48 , الملف الشخصي:

كاتب وباحث أكاديمي ، مدير مركز الاشعاع الفكري للدراسات والبحوث.